أيّها النّاس استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متعّظ، و امتاحوا من صفو عين قد روّقت من الكدر، عباد اللّه لا تركنوا إلى جهالتكم، و لا تنقادوا إلى أهوائكم، فإنّ النّازل بهذا المنزل نازل بشفا جرف هار، ينقل الرّدى عن ظهره من موضع إلى موضع لرأي يحدثه بعد رأي، يريد أن يلصق ما لا يلتصق، و يقرّب ما لا يتقارب، فاللّه اللّه أن تشكوا إلى من لا يشكى شجوكم، و لا ينقض برأيه ما قد أبرم لكم، إنّه ليس على الإمام إلّا ما حمّل من أمر ربّه: الإبلاغ في الموعظة، و الاجتهاد في النّصيحة، و الإحياء للسّنّة، و إقامة الحدود على مستحقّيها، و إصدار السّهمان على أهلها، فبادروا العلم من قبل تصويح نبته، و من قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستثار العلم من عند أهله، و انهوا غيركم عن المنكر و تناهوا عنه، فإنّما أمرتم بالنّهي بعد التّناهي.
اللغة
(استصبح) بالمصباح استسرج به و (الامتياح) نزول البئر و ملؤ الدلاء منها و (الترويق) التصنفية و منه الرواق بالكسر و هو الصافي من الماء و غيره و (الشفا) شفير الشّي ء و جانبه و (الجرف) بالضمّ و بضمّتين ما تجرّفته السّيول و أكلته من الأرض و (الهار) الضعيف الساقط المنهدم يقال هار الجرف يهور هورا فهو هائر و هار كقاض.
و (اشكيت) زيدا بهمزة الأفعال أزلت شكايته و (الشجو) الهمّ و الحزن و (ابرم) الأمر أى أحكمه، و الحبل أى جعله طاقين ثمّ فتله و (الاصدار) الارجاع من الصدر و هو الرّجوع و (السهمان) كالسهمة بالضّم فيهما جمع السهم و هو الحظ و النّصيب و (صوّح) النبت أى يبس و تشقّق أو جفّ أعلاه و (المستثار) مصدر بمعنى الاستثارة و هو الانهاض و التهييج.
الاعراب
مصباح في بعض النسخ بالتّنوين فيكون واعظ بدلا و في بعضها بلا تنوين بالاضافة، و على ذلك فيحتمل أن يكون الاضافة لامية و أن تكون من اضافة المشبّه به إلى المشبّه من قبيل لجين الماء، و فى نسخة الشارح المعتزلي من شعلة بمصباح واعظ بتنوين شعلة و اضافة مصباح مع الباء الجارة و هى باء الآلة منعلّقة باستصبحوا.
و ينقل الرّدى عن ظهره عن بمعنى على كما في قوله:
- لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسبعنّى و لا أنت ديّانى فتخزوني
أى للّه درّ ابن عمّك لا أفضلت في حسب علىّ، و في أكثر النّسخ على ظهره و هو الأنسب، و قوله فاللّه اللّه بالنصب فيهما و العامل محذوف أى اتقوا اللّه، و احذرّكم اللّه و قوله الابلاغ في النّصيحة بالرفع بدل بعض من ما.
المعنى
(أيّها النّاس استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متّعظ) أى استسرجوا من شعلة سراج واعظ لغيره متّعظ في نفسه، فانّ من لم يكن متّعظا في نفسه لا يكون موعظته مؤثرة في القلوب، بل تكون القلوب نافرة منه و النفوس مشمئزّة قال الشاعر:
- لا تنه عن خلق و تأتى مثلهعار عليك إذا فعلت عظيم
و لا يخفى عليك أنّ اضافة مصباح إلى واعظ إن كانت من اضافة المشبّه به الى المشبّه فذكر الشعلة و الاستصباح ترشيح للتّشبيه و وجه الشبه كونهما من أسباب الهداية، و إن كانت الاضافة بمعنى اللام فلفظ المصباح استعارة لموعظة الواعظ و الشعلة و الاستصباح ترشيح الاستعارة، و يحتمل أن يكون ذكر الشعلة تخييلا و الاستصباح ترشيحا على ما ذهب إليه بعض البيانييّن من عدم الملازمة بين التخييل و الاستعارة بالكناية و إمكان وجوده بدونها، و كذلك لو كان مصباح منوّنا و واعظ بدلا منه إلّا أنّ المستعار له على الأوّل هو الموعظة، و على الثاني يحتمل أن يكون الموعظة و أن يكون نفس الواعظ و كيف كان فالاشارة بالواعظ المتّعظ إلى نفسه الشريف و مثله قوله: (و امتاحوا من صفوعين قدر وقّت من الكدر) فانه استعار صفو العين للعلوم الحقة و هو من استعارة المحسوس للمعقول و الجامع أنّ العلم به حياة للأرواح كما أنّ صفو العين به حياة الأبدان و ذكر الترويق و الامتياح ترشيح للاستعارة أو الترويق تخييل و الامتياح ترشيح على ما مرّ و أراد الترويق من الكدر خلوّ تلك العلوم من شوائب الأوهام و بالامتياح أخذها من منبعها و هو أمر لهم باقتباس العلوم الشّرعية و المعارف الحقة منه عليه السّلام.
و لما أمر بذلك أردفه بالنهى عن الركون إلى الجهالة فقال عليه السّلام (عباد اللّه لا تركنوا إلى جهالتكم) أى لا تميلوا إليها (و لا تنقادوا إلى أهوائكم) أى الأهواء الباطلة المخرجة عن كرائم الأخلاق إلى رذائلها و عن حقّ المصالح إلى باطلها (فانّ النازل بهذا المنزل).
يحتمل أن يكون المراد به من ادّعى الخلافة من غير استحقاق لها الذي وضع نفسه في مقام و نزل بمنزل ليس له أهليّة به و يشعر بذلك ما سيأتي من نهيه عليه السّلام عن الشكاية إلى من لا يقدر على ازالة الشكوى و ما ذكر بعده من أوصاف الامام الحقّ عليه السّلام.
إلّا أنّ الأظهر بقرينة ما سبق أنّ المقصود به من نزل منزل الركون إلى الجهالة و مقام الانقياد إلى الأهواء، فانه لما نهى عن الركون و الانقياد علّله بذلك و أردفه به، يعني أنّ من ركن إلى جهالته و انقاد إلى هواه و استبدّ برأيه و استغنى به عن امامه فقد أسّس بنيان دينه على باطل لاقوام له و لاثبات.
و مثله مثل (نازل بشفا جرف هار) مشرف على السقوط و الانهدام و هو اقتباس من قوله سبحانه: أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ يعني من أسّس بنيان دينه على قاعدة محكمة هى الحقّ الذي هو التّقوى من اللّه و طلب مرضاته بالطاعة خير أمّن أسّس بنيانه على قاعدة هى أضعف القواعد و هو الباطل و النفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلّة الثّبات و الاستمساك.
قال الزمخشري في الكشاف: وضع شفا الجرف في مقابل التقوى لأنّه جعله مجازا عمّا ينافي التقوى ثمّ قال: فان قلت: فما معنى قوله فانهار به في نار جهنّم قلت لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل قيل فانهار به في نار جهنّم على معنى فطاح به الباطل في نار جهنّم إلّا أنّه رشح المجاز فجي ء بلفظ الانهيار الذى هو للجرف، و ليصوّر أن المبطل كأنّه أسّس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنّم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها، و لا ترى أبلغ من هذا الكلام و لا أدّل على حقيقة الباطل و كنه أمره منه، هذا.
و لما نبّه عليه السّلام على أنّ الرّاكن إلى جهالته و المنقاد إلى هواه المستبدّ برأيه الزاعم لنفسه الاستقلال مقيم على باطل و نازل بمنزل في معرض السّقوط و التهدّم، و كان الباطل مستلزما للهلاك الدّائم، عقّبه بقوله (ينقل الرّدى) أى الهلاك الناشى عن باطله (على «عن» ظهره من موضع إلى موضع لرأى) فاسد (يحدثه بعد رأى يريد أن يلصق ما لا يلتصق و يقرّب مالا يتقارب) أى يريد اثبات باطله بحجج باطلة ثمّ حذّرهم عن الرّجوع إلى الجهّال و عن اتباع أئمة الضّلال بقوله: (فاللّه اللّه أن تشكوا إلى من لا يشكى شجوكم) أى لا يقدر على إزالة حزنكم برفع الأسباب الموجبة له، و ذلك لعدم بصيرته في مجارى الامور و عدم معرفته بوجوه المصالح (و لا ينقض برأيه ما قد أبرم لكم) أى لا يقدر على كشف المعضلات و حلّ المشكلات في المعاش و المعاد لقلّة البصيرة و المعرفة، و في بعض النسخ: و ينقض برأيه بدون لا، و هو أولى، أى لا تشكوا إلى من ينقض برأيه الفاسد و نظره الكاسد ما قد أحكمه الشرع في حقكم بالآيات الباهرة و السنة الزاهرة.
ثمّ لما نهاهم من الرجوع إلى من لا يتمكّن من إزالة الشّكوى و الشّجوى و لا يستطيع حلّ المبرمات المغلقات، أردفه ببيان ما يجب على الامام بالنسبة إلى رعيّته ليعرفوا وظايف الامام و لوازم الامامة، فيتابعوا من اتّصف بها و يراجعوا إليه في أمر الدّين و الدّنيا، و يرفضوا غيره و ينتهوا عنه فقال عليه السّلام (إنه ليس على الامام) الحقّ (إلّا) القيام ب (ما حمّل من أمر ربّه) و هو امور خمسة: (الابلاغ في الموعظة، و الاجتهاد في النصيحة، و الاحياء للسنة، و إقامة الحدود على مستحقّيها، و إصدار السّهمان على أهلها) و من المعلوم أنه عليه السّلام قام بتلك الوظايف فأدّى ما حمّله و بالغ في الموعظة و النصيحة و كفى به شهيدا ما ضمنه خطبه الشريفة، و أحيى الشريعة و أمات البدعة، و أقام الحدود من دون أن يأخذه في اللّه لومة لائم، و عدل في القسمة شهد بكلّ ذلك المؤالف و المخالف.
و أمّا غيره عليه السّلام من المنتحلين للخلافة فقد قصّروا في ذلك و أحيوا البدعة، و فرّطوا في إجراء الحدود، و فضلوا في قسمة السّهام كما يظهر ذلك بالرّجوع إلى ما ذكره الأصحاب من مطاعنهم، و قد تقدّمت في غير موضع من الشرح و تأتي أيضا في مقاماتها اللّائقة، هذا.
و لعلّ غرضه من النفى أعني قوله عليه السّلام ليس على الامام إلّا ما حمّل قطع الأطماع الفاسدة و التوقّع للتفضّل في القسمة كما كان دأب المتخلّفين و ديدنهم.
و لمّا نهيهم عن الرّكون إلى الجهل و الرّجوع إلى قادة الضلال عرفهم ما يجب رعايته على الامام من لوازم منصب الامامة و أمرهم بالرجوع إليه و بالأخذ من قبسات علمه فقال عليه السّلام: (فبادروا العلم من قبل تصويح نبته) أى من قبل أن يجفّ نباته، و هو كناية عن ذهاب رونقه أو عن اختفائه بفقدانه عليه السّلام (و من قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستثار العلم من عند أهله) أى من قبل أن تكونوا مشغولين بتخليص أنفسكم من شرور بني امية و فتنها التي ستنزل بكم عن استثارة العلم و تهييجه و استخراجه من عند أهله، و أراد بأهله نفسه الشريف (و انهوا غيركم عن المنكر و تناهوا عنه فانما امرتم بالنّهى بعد التّناهي).
قال الشارح المعتزلي: في هذا الموضع اشكال، و ذلك أنّ لقائل أن يقول النهى عن المنكر واجب على العدل و الفاسق فكيف قال: إنّما امرتم بالنّهى بعد التناهى و الجواب إنه لم يرد أنّ وجوب النهى عن المنكر مشروط بانتهاء ذلك الناهي من المنكر، و إنما أراد أني لم آمركم بالنّهى عن المنكر إلّا بعد أن أمرتكم بالانتهاء عن المنكر فالترتيب إنّما هو في أمره عليه السّلام لهم بالحالتين المذكورتين لا في نهيهم و تناهيهم.
فان قلت: فلما ذا قدّم أمرهم بالانتهاء على أمرهم بالنهى قلت: لأنّ إصلاح المرء لنفسه أهمّ من الاعتناء باصلاحه لغيره انتهى.
و أقول: لا حاجة إلى ما تكلّفه في الجواب، و الأولى أن يقال: إنّه عليه السّلام أمر بالنهى و التناهي معا أوّلا، و هو دليل على وجوب الأمرين كليهما، و اتبعه بقوله: فانّما امرتم بالنهى آه تنبيها على أنّ التناهى في نظر الشارع مقدّم على النّهى و وجوبه آكد، لأنّ إصلاح النفس مقدّم على إصلاح حال الغير، و لأنّ النهى إنما يثمر بعد التناهي، و يكون تأثيره في النفوس أقوى، و انفعال الطّبايع منه أشد أو آكد كما يشهد به العقول السليمة و التجربة المستمرة و توافقت عليه الشرائع و الآراء و دلّت عليه الأحاديث و الأخبار.
ففى الوسائل عن الكليني باسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى.
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ.
قال عليه السّلام كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا و أمروا فنجوا، و صنف ائتمروا و لم يأمروا فمسخوا، و صنف لم يأتمروا و لم يأمروا فهلكوا.
و عن الصّدوق باسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال في وصيّته لولده محمّد بن الحنفية: يا بني اقبل من الحكماء مواعظهم و تدبّر أحكامهم، و كن آخذ النّاس بما تأمر به، و أكفّ الناس عما تنهى عنه و أمر بالمعروف تكن من أهله، فانّ استتمام الامور عند اللّه تبارك و تعالى الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر.
و من الخصال مسندا عن محمّد بن أبي عمير رفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنما يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عامل بما يأمر به تارك لما ينهى عنه، عادل فيما يأمر عادل فيما ينهى، رفيق فيما يأمر رفيق فيما ينهى.
و من المجالس باسناده عن المفضل بن عمر قال قلت لأبي عبد اللّه الصّادق عليه السّلام بم يعرف الناجي فقال: من كان فعله لقوله موافقا فهو ناج، و من لم يكن فعله لقوله موافقا فانما ذلك مستودع.
و عن أبي حمزة عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام في حديث وصف المؤمن و المنافق قال عليه السّلام: و المنافق ينهى و لا ينتهى و يأمر بما يأتي.
و عن الارشاد للحسن بن محمّد الدّيلمي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رأيت ليلة أسرى بي إلى السماء قوما تقرض شفاههم بمقاريض من نار ثمّ يرمى، فقلت يا جبرئيل من هؤلاء فقال: خطباء امّتك يأمرون النّاس بالبرّ و ينسون أنفسهم و هم يتلون الكتاب أفلا يعقلون.
و الرّوايات في هذا المعنى كثيرة و فيما رويناه كفاية لمن له دراية، و في هذا المعنى قال أبو الأسود الدّئلي:
- و إذا جريت مع السّفيه كما جرىفكلا كما في جريه مذموم
- و إذا عتبت على السّفيه و لمتهفي مثل ما تأتى فأنت ظلوم
- لا تنه عن خلق و تأتى مثلهعار عليك إذا فعلت عظيم
- و ابدء بنفسك فانهها عن عيبهافاذا انتهيت عنه فأنت حكيم
- فهناك يقبل ما و عظت و يقتدىبالعلم منك و ينفع التعليم
و اللّه الهادي و هو الموفق.
|